الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **
أعلم: أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو القطب العظم في الدين، وهو المهم الذي بعث الله به النبيين، ولو طوى بساطه، لاضمحلت الديانة، وظهر الفساد، وخربت البلاد. قال الله تعالى: فقد جاء في الحديث المشهور من رواية مسلم، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: وفى حديث آخر: اعلم: أن أركان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أربعة: وأما عدالة المنكر، فاعتبرها قوم وقالوا: ليس للفساق أن يحتسب ، وإنما استدلوا بقوله تعالى: واشترط قوم كون المنكر مأذوناً فيه من جهة الإمام أو الوالي، ولم يجيزوا لآحاد الرعية الحسبة، وهذا فاسد، لأن الآيات والأخبار عامة تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عنه عصى، فالتخصيص بإذن الإمام تحكم. ومن العجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يتكلموا، لكن جوابهم أن يقال لهم إذا جاءوا إلى القاضي طالبين حقوقهم: نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من يد من ظلمكم نهى عن المنكر، ولم يجئ زمان ذلك لأن الإمام لم يخرج بعد. فإن قيل: بى الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم، مع كونه حقاً، فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من السلطان. قلنا: أما الكافر فممنوع من ذلك لما فيه من السلطة والعز، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة. 3ـ مراتب الحسبة واعلم أن الحسبة لها خمس مراتب: 1ـ التعريف: 2ـ والوعظ بالكلام اللطيف. الثالثة: السب والتعنيف، ولسنا نعنى بالسب الفاحشة، بل نقول له: يا جاهل يا أحمق، ألا تخاف من الله تعالى! ونحو ذلك. والرابعة: المنع بالقهر، ككسر الملاهي وإراقة الخمر. والخامسة: التخويف والتهديد بالضرب، أو مباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه، فهذه المرتبة تحتاج إلى الإمام دون ما قبلها، لأنه ربما جر إلى فتنة. واستمرار عادات السلف على الحسبة للولد على الوالد، والعبد على السيد، والزوجة على الزوج، والرعية على الوالي؟. قلنا: أصل الولاية ثابت للكل، وقد رتبنا للحسبة خمس مراتب. فللولد من ذلك الحسبة بالتعريف، ثم بالوعظ والنصح باللطف. وله من الرتبة الخامسة: أن يكسر العود، ويريق الخمر، ونحو ذلك، وهذا الترتيب ينبغي أن يجرى في العبد والزوجة. وأما الرعية مع السلطان، فالأمر فيه أشد من الولد، فليس معه إلا التعريف والنصح. ويشترط كون المنكر قادراً على الإنكار، فأما العاجز، فليس عليه إنكار إلا بقلبه، ولا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي، بل يلتحق به خوف مكروه يناله، فذلك في معنى العجز. وكذلك إذا علم أن إنكاره لا ينفع، فيقسم إلى أربعة أحوال: أحدها: أن يعلم أن المنكر يزول بقوله أو فعله من غير مكروه يلحقه، فيجب عليه الإنكار الحالة الثانية: أن يعلم أن كلامه لا ينفع وأنه إن تكلم ضرب، فيرتفع الوجوب عنه. الحالة الثالثة: أن يعلم إن إنكاره لا يفيد، لكنه لا يخاف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر لعدم الفائدة، لكن يستحب لإظهار شعائر الإسلام والتذكير بالدين. الحالة الرابعة: أن يعلم أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله، مثل أن يكسر العود، ويريق الخمر، ويعلم أنه يضرب عقيب ذلك، فيرتفع الوجوب عنه، ويبقى مستحباً لقوله في الحديث: وقولنا: موجوداً في الحال، احتراز ممن شرب الخمر وفرغ من شربها، ونحو ذلك ، فإن ذلك ليس إلى الآحاد، وفيه أيضاً احتراز عما سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينه حاله أنه عازم على الشرب الليلة، فلا حسبة عليه إلا بالوعظ. وقولنا: ظاهراً، احتراز ممن تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه، فإنه لا يجوز أن يتجسس عليه، إلا أن يظهر ما يعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير والعيدان، فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، فإن فاحت رائحة الخمر، فالأظهر جواز الإنكار. ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوماً كونه منكراً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد، فلا حسبة فيه، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله متروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه يسير النبيذ الذي ليس بمسكر. فكهذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء. ومن اجتنب محذور السكوت عن المنكر، واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه، فقد غسل الدم بالبول. ومثال ذلك مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، وهو غاية الجهل، ومذلة عظيمة، وغرور من الشيطان، ولذلك محك ومعيار، فينبغي أن يمتحن به المحتسب نفسه، أو باحتساب غيره عليه، أحب إليه من امتناعه باحتسابه، فإن كانت الحسبة شاقة عليه، ثقيلة على نفسه، وهو يود أن يكفى بغيره، فليحتسب، فإن باعثه هو الدين، وإن كان الأمر بالعكس، فهو متبع هوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاهه بواسطة انكاره، فليتق الله وليحتسب أولاً على نفسه. وقيل لداود الطائى: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ قال: أخاف عليه السوط. قيل: هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه السيف، قيل: هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه الداء الدفين: العجب. أحدهما: أن لا يباشر التغيير ما لم يعجز عن تكليف المنكر علي ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه الخروج عن الأرض المغصوبة، فلا ينبغي أن يجره ولا يدفعه. والثاني: أن يكسر الملاهي كسراً يبطل صلاحيتها للفساد، ولا يزيد على ذلك ويتوقى في إراقة الخمور كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، وإن لم يقدر إلا بأن يرمى ظروفها بحجر أو نحوه، فله ذلك، وتسقط قيمة الظرف، ولو ستر الخمر بيديه، فإنه يقصد بيديه بالضرب ليتوصل إلى إراقة الخمر، ولو كانت الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس، بحيث أنه إذا اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق فمنعوه ، فله كسرها، لأن هذا عذر وكذلك إن كان يضيع الزمان في صبها، وتتعطل أشغاله، فله كسرها ولو لم يحذر من الفساق. فإن قيل: فهلا يجوز الكسر زجراً، وكذلك الجر بالرجل في الإخراج من الدار المغصوبة زجراً ؟ قلنا: إنما يجوز مثل ذلك للولاة ، ولا يجوز لآحاد الرعية، لخفاء وجه الاجتهاد فيه. وقيل : لا يشترط في ذلك إذن الإمام. وقد ذكرنا آداب المحتسب مفصلة، وجملتها ثلاث صفات في المحتسب. العلم بمواقع الحسبة وحدودها ومواقعها، ليقتصر على حد الشرع. والثاني : الورع، فانه قد يعلم شيئاً ولا يعمل به لغرض من الأغراض. والثالث: حسن الخلق، وهو أصل ليتمكن من الكف، فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع خلق حسن. قال بعض السلف: لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به ، فقيه فيما ينهى عنه . ومن الآداب: تقليل العلائق، وقطع الطمع عن الخلق لتزول المداهنة، فقد حكى عن بعض السلف أنه كان له سنور، وكان يأخذ لسنوره في كل يوم من قصاب في جواره شيئاً من الغدد. فرأى على القصاب منكراً ، فدخل الدار فأخرج السنور، ثم جاءه فأنكر على القصاب، فقال: لا أعطيك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال: ما أنكرت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك، وهذا صحيح، فإن لم يقطع الطمع من الناس من شيئين لم يقدر على الإنكار عليهم. أحدهما : من لطف ينالونه به . والثاني : من رضاهم عنه وثنائهم عليه. وأما الرفق في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمتعين ، قال الله تعالى: ومر فتى يجر ثوبه، فهم أصحاب صلة بن أشيم أن يأخذوه بألسنتهم أخذاً شديداً، فقال صلة: دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا ابن أخي، إن لى إليك حاجة. قال ما هي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال نعم ونعمى عين فرفع إزاره، فقال صلة، لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم ، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم. وُدعي الحسن إلى عرس، فجئ بجام من فضة فيه خبيص ، فتناوله وقلبه على رغيف، فأصاب منه، فقال رجل : هذا نهى في سكون.
|